الأرض اليباب- انتظار المطر وسط أزمات العالم

في غضون مسيرتي الصحفية الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، كنت أحجم عن الخوض في غمار السياسة. لم تكن الأخبار السياسية تستحوذ على اهتمامي، إذ كنت أراها ضحلة، خالية من الجوهر، ومحدودة الأثر.
ولكن، مع تبوّئي مكانة كاتب زاوية، بدأت المؤثرات السياسية، والتطورات العالمية الخطيرة، تفرض عليّ تغيير هذا النهج. بدأت الكتابة في السياسة، لكنني كنت أحرص بشدة، على الأقل مرتين أسبوعيًا، على الكتابة عن الحياة، الأدب، بديع الطبيعة، والفنون الراقية.
إلا أن الأحداث تسارعت وتيرتها، والأزمات تعاظمت، إلى أن أصبح من العسير عليّ، في السنوات الخمس الأخيرة على وجه الخصوص، أن أكتب عن أي موضوع آخر غير ما يشهده العالم من أزمات وتطورات مباغتة.
لقد انقضى أكثر من عام على انضمامي إلى "الجزيرة نت"، وعندما أتمعّن في الماضي، أجد أنني لم أكتب سوى عن الأزمات التي تعصف بمنطقتنا. وفي المقابل، عندما أتفحص الخريطة التي تُبيّن الدول التي ينتمي إليها زوار موقعي الشخصي، أرى أن لديّ قراء من شتى بقاع الأرض، من أمريكا إلى الصين، ومن الصومال إلى روسيا.
لقد منحتني الجزيرة فرصة سانحة للتعبير عن وجهات نظري على منصة عالمية. ولقد غمرتني السعادة لمعرفة أن قرائي أبدوا اهتمامًا بالغًا بمقالاتي في عام 2024، ولكنني في الوقت ذاته، أشعر بحزن عميق.
كنت أتمنى لو أنني تمكنت من مشاركة هؤلاء القراء الموقرين، المنتشرين في هذه البقعة الجغرافية الشاسعة، قضايا متنوعة، وأن نتبادل الاهتمامات والأفكار، وأن نسلك سويًا طريق البحث عن الحقيقة. كنت أطمح إلى أن أتحدث ليس عن السياسة فحسب، ولا عن الحروب والأزمات، بل عن تلك الأمور التي تضفي على حياتنا رونقًا ومعنى.
وأنا على يقين بأن الكثيرين في مختلف أصقاع العالم يشاطرونني هذا الشعور. إننا جميعًا نتوق إلى الحقيقة، تلك الحقيقة التي ضاعت وتحولت إلى سراب. لدينا آلام وهموم مشتركة، وآمال وتطلعات متماثلة، وسعي دؤوب نحو مستقبل يزخر بالخير.
أما الشباب، فقلوبهم يعتصرها القلق والدهشة أكثر من غيرهم. عقولهم تغص بعلامات الاستفهام أكثر منا، وتنوء بالمخاوف والشكوك. لطالما كنت أخصص يومًا في الأسبوع لكتابة مقال موجه إليهم، حتى لا يعيشوا ما خبرته من آلام، ولا يكرروا أخطائي، ويستفيدوا من تجاربي.
ولكن انظروا كيف تحول العالم بأكمله إلى فوضى عارمة! لم نعد قادرين حتى على صياغة مقالات حول الفن، الأدب، أو جمال الطبيعة. بل لم نعد نملك القدرة على إجراء تحليلات سياسية موضوعية ومنطقية. ما نشهده يتجاوز حدود الإدراك والعقل، ولا يمكن تفسيره بمنطق سليم.
عندما يتعرض الجسد لنزيف حاد، يوجه الدماغ كل طاقاته نحو موضع الجرح ويتجاهل الألم في المناطق الأخرى.
وهذا هو حالنا الآن تمامًا؛ فبينما تنزف غزة جراحها بغزارة، يصعب على عقولنا أن تلتفت إلى أي شيء آخر. لا نستطيع إغفال صور الأطفال بهياكلهم العظمية النحيلة، لكننا في الوقت ذاته لا نغفل تلك الحقيقة الموجعة التي يعيشونها.
تلك الحقيقة تقض مضاجعنا، وتطفئ جذوة الفرح في قلوبنا، وتحول أيامنا إلى صحراء قاحلة.
لقد مضى زمن طويل لم أسطر فيه كلمتين عن بهجة الحياة. لم أعد أقرأ أو أكتب في الفكر أو الفلسفة أو التاريخ أو الفن أو الأدب. ذلك لأن همجية إسرائيل قد بلغت من الشراسة مبلغًا يجعلني أرى الظلم متفشيًا في كل صوب.
ومن فرط عجزي عن ردعهم، وعن التخفيف من حدة آلام الضحايا، أصاب بالهوان النفسي. لذا أشعر أن كل ما أفعله قد بات ضربًا من العبث. فكيف للإنسان أن يخوض في الحديث عن الفن أو الأدب في ظل هذا الواقع المرير؟
باختصار شديد، لقد أضحت حياتنا كالأرض الجدباء، الأرض المتصحرة التي تتوق إلى الغيث…
ولكن لا يتبادر إلى أذهانكم أنني مستسلم لليأس. فالمآسي التي نعيشها، تعلمنا عبرًا جديدة، وترسم لنا خارطة طريق لأيام نعود فيها إلى الحياة من جديد.
وسيأتي يوم، لا ريب فيه، نشارك فيه قراءنا في أرجاء العالم قاطبة أمورًا مبهجة عن صفو الحياة. ويتحقق ذلك، إذا ما استخلصنا العبر من هذه الجراح الغائرة، وعملنا بجد لتضميدها وتصحيح مسارها… وحينها، سيهطل المطر على أرضنا القاحلة، وسينسكب الغيث بالخير والبركة، وأنا على ثقة تامة من ذلك.